كلمة الدكتور أنطوان حكيّم في ندوة إطلاق كتاب مؤتمر “دردشة”

أيها الزملاء، أيها الأصدقاء، 

أشكر الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ التي وجّهت إليّ الدعوة للمشاركة في تقديم كتابها “نحو مسار لتطوير تعليم التاريخ في لبنان” وفي إقامة هذا اللقاء حول واقع مادة التاريخ وتعليمها في وطننا.

قرأتُ هذا الكتاب بتمّن واهتمام كبيرين، كوني ساهمتُ في وضع منهجين من مناهج التاريخ التي تتطرّق إليها الأبحاث التي يحتوي عليها، وكوني كتبتُ ونشرتُ أبحاثًا تاريخيَّة ودرّستُ مادة التاريخ لأكثر من خمسين سنة في الصفوف التكميليَّة والثانويَّة وفي جامعَتَين فرنسيَّتَين هما أنجيه (Angers) ونيس (Nice) وفي أربع جامعات لبنانيَّة. 

أهنئ المسؤولين عن الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ على نتيجة هذه الدردشة، كما سمّوها، لأنهم استطاعوا أنْ يجمعوا، في حوار علمي صادق وشفّاف، كوكبة من الاختصاصيّين في علم التاريخ وفي تدريسه ومن المسؤولين التربويّين في الجامعات الرئيسيَّة في لبنان وفي وزارة التربية وفي المركز التربوي للبحوث والإنماء، ليضعوا معًا، في عمليَّة جماعيَّة، أفكارهم وخبراتهم وليتداولوا في أنجع الطرق التي قد تساعد عل رسم مسار علمي لتطوير تعليم التاريخ في لبنان. إنها الطريقة الفضلى لبلوغ النتيجة المبتغاة. قال مونتانيو (Montaigne) في ذلك: Il faut limer sa cervelle contre la cervelle d’autrui، أي علينا أن نصقل دماغنا على دماغ الآخر، وهذا ما عملت عليه الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ على تحقيقه، فلها الشكر.

إنَّ المستوى العلمي للمقدمة العامَّة التي صاغها الدكتور أمين الياس وللنصوص الأخرى التي يتضمّنها الكتاب، هو، بدون استثناء، مرتفع جدًا وإني أهنّئ أصحابها. إنَّها تتطرَّق إلى الإشكاليَّة والعوائق المختلفة التي تواجهها عمليَّة تعليم التاريخ في لبنان، بدءًا بالمناهج والأيديولوجيات التي تتحكّم في إعدادها، وبحالة الجمود التي أصابت تلك التي اعتُمدت حتى الآن في لبنان، وذلك بسبب التجاذب السياسي والخلاف الطائفي، مرورًا بإعداد الكتاب المدرسي وبرفض الكتاب الموحّد والسرديَة الواحدة، وصولًا إلى تأهيل أساتذة التاريخ وإلى استراتيجيات التدريس التي تنمّي مهارات التفكير عند الطالب والتي تقوم على الطرائق الناشطة يشترك فيها المتعلّم في العمليَّة التعليميَّة، كي لا يتصرّف الطلاب، بحسب ما ورد في ورقة الدكتور باسل عكر، “كأوعية يتلقون المعلومات دون تمحيص” (ص. 32)، وصولًا أخيرًا إلى التقييم والامتحان إلخ.

إنَّها إلمامة شاملة بكلّ المسائل التي تهمّنا كمعنيّين مباشرة بكتابة التاريخ وبتعليمه. كما أنّ التوصيات التي خرج بها المؤتمرون والتي أدرجها الدكتور الياس في الصفحات 24 إلى 28 من الكتاب، وأيضًا الأفكار التي طرحها الدكتور سيمون عبد المسيح للخروج من الأزمة في الصفحات 48 إلى 50 تبدو طموحة، ولكنّ قسمًا كبيرًا منها قابل للتطبيق إذا صدقت نوايا المسؤولين السياسيين وسمحوا بإعادة كل ما له علاقة بالتاريخ إلى أصحاب الشأن، إلى أي المؤرخين والتربويين.

كان الهدف من لقاء “الدردشة” هذا، كما كتب الدكتور الياس في التمهيد، “السعي لتحويل هذه المادة من مادة ميتة مهملة إلى مجال معرفي”، والعمل على تعزيز التفكير النقدي عند المتعلّم وتهذيب المواطن وتثقيفه – وهو المدعو مستقبلًا إلى المشاركة في إدارة الشأن العام – وأخيرًا بناء ذاكرة جماعيَّة تشكّل أساسًا صلبًا للهويّة والانتماء.

إنَّ جميع هذه الأهداف تستحقّ الثناء. لذا لا أسمح لنفسي المسّ بجوهر هذا العمل. لديّ فقط توضيح وتعليق شخصيّ على بعض الأفكار الواردة في النصوص، سأعرض ذلك باختصار.

أولًا – التوضيح: 

إنه يتعلّق بالمحاولات التي جرت لإعداد منهج جديد لمادة التاريخ والتي يعرضها الدكتور الياس في الصفحة 13 من مقدّمته. إنه يتكلّم عن المحاولة الأولى التي جرت في العامين 1999 و2000 والتي قام بها المركز التربوي للبحوث والإنماء ويقفز إلى العام 2010 حيث، كما ورد في نصّه، جرت المحاولة الثانية. ويعتبر أنّ ما جرى في العام 1997 يشكّل المحاولة الثالثة. 

إنَّ التسلسل الزمني الحقيقي لهذه المحاولات ولمراتبها يختلف بعض الشيء عمّا ذُكر في المقدّمة العامّة. 

قام فعلًا المركز التربوي مع الدكتور نمر فريحة بالمحاولة الأولى في العامين 1999 و2000. أما المحاولة الجديَّة الثانية فتمّت في العامين 2002 و2003. قام بها أيضًا المركز التربوي بإشراف الدكتورة ليلى فيّاض، في عهد وزير التربية عبد الرحيم مراد. شاركتُ فيها أنا شخصيًّا. 

وُضع منهاج للحلقات كافّة، وتمّ تأليف الكتب للحلقتين الأولى والثانية. لم تُذكر هذه المحاولة في الكتاب إلا عرضًا في حاشية للدكتور عبد المسيح في الصفحة 43، وبعد استقالة الوزارة وتغيّر وزير التربية، توقّف العمل بهذا المنهاج. لكنّ اللجنة التي أعدّت منهاج 2010 استعانت به في عملها.

عملت لجنة 2010 بإشراف المركز التربوي والدكتورة ليلى فيّاض ووزير التربية آنذاك الدكتور حسن منيمنة، وهو من أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية. جرى العمل فيها على مستويين: مستوى اللجنة الموسّعة وقد تمثّل فيها الأكاديميون والتربويون والسياسيّون، وكانت تعقد اجتماعاتها في وزارة التربية في الأونيسكو، ومستوى اللجنة المصغّرة وكانت تتألف من 3 أشخاص، من الدكتور عبد الرؤوف سنّو، ومنّي شخصيًا كمؤرخين، ومن الأستاذ أمل وهيبة كتربوي. كانت اللجنة المصغّرة تعقد اجتماعاتها في المركز التربوي وتعدّ المنهج لكلّ سنة على حدة، ومن ثمّ تعرضه على اللجنة الموسّعة في الأونيسكو حيث تجري مناقشته والموافقة عليه. أما المحاولة التي قام بها المركز التربوي مع الهيئة اللبنانيَّة للتاريخ، فلم يكن الهدف منها وضع منهاج جديد في الصفوف، وقد فصّل الدكتور أمين الياس ذلك في الصفحة 11 من الكتاب. 

ثانيًا – رأيي في بعض النقاط الواردة في الكتاب

هذا هو الإيضاح بشأن المناهج، اسمحوا لي الآن أن أبدي رأيي في بعض النقاط الواردة في الكتاب.

النقطة الأولى: صورة كلّ من المتعلّم والأستاذ كما تبرز لي في الكتاب

إن الصورة التي رسمها المشاركون في مؤتمر “دردشة” للمتعلّم هي مثالية: عليه، كتب الدكتور الياس، “ألا يكون متلقيًّا فحسب، بل أن يكون مشاركًا في عملية التعلّم والبحث التاريخيين […]، أن يكتسب الكفايات اللازمة ليكون باحثًا حرًا، مفكرًا، ناقدًا، محللًا، مقارنًا، منفتحًا على تنوّع الروايات التاريخية، وقادرًا في النهاية على بناء روايته التاريخية”. ويتابع الدكتور الياس في مقدمته: “الغاية الأسمى من تعليم التاريخ في المدرسة تمثّل في تدريب المتعلّم أن يكون مؤرّخًا صغيرًا”. وفي التمهيد نقرأ أيضًا أنه يتوجّب على أساتذة التاريخ أنْ يدعموا “المتعلّمين ليتحوّلوا من مجرّد متلقّين لمادة التاريخ إلى باحثين، ولما لا، إلى مؤرّخين صغار، قادرين على بناء روايتهم التاريخيَّة، مع كلّ ما يرافق هذه العمليَّة من بناء لقدرات هذا المتعلّم على تطوير قراءته في البحث عن المستندات والمصادر وتمحيصها والتأكد من موثوقيّتها وتحليلها، ومقارنتها مع غيرها من الوثائق، والاستنتاج منها، وتحويلها إلى دليل بناء الحجّة التاريخيَّة، وبالتالي روايته التاريخيَّة. كلّ هذا سيكون مترافقًا أيضًا مع نشاطات من مثل العمل الفريقي والعرض والنقاش والجدل والإصغاء وإدارة الوقت وتنظيم الأدوار إلخ…”.

طبعًا ما نصبو إليه جميعًا، وهذا ما يصبو إليه كلّ معلّم في ما خصّ مادته. فأستاذ اللغة والأدب يتمنّى أنْ يصبح تلامذته أدباء وأستاذ العلوم علماء وهكذا دواليك. ولكن أين هو طالب التاريخ من كلّ ذلك؟

كلّنا أيها الزملاء والأصدقاء نجهد لكي يكون لتلامذتنا فكر متوازن لا رؤوس ممتلئة. أذكّر هنا بما قاله مونتانيو (Montaigne) بهذا الصدد: “Avoir plutôt la tête bien faite que bien pleine”، ولكنّني أخشى إنْ نحن رفعنا السقف عاليًا وابتعدنا عن الواقع، أنْ نُصاب بخيبة أمل وأنْ نيأس، وإنّ الواقع لا يقتصر على موقف الفاعليَّات السياسيَّة والتربويَّة من المناهج ومن طرق التعليم ومن التقييم ومن عدد ساعات التدريس الأٍسبوعية المكرّسة للتاريخ، الواقع هو أيضًا تجاوب التلميذ وقناعة المعلّم. 

كتبت الدكتورة ندى حسن في بحثها في الصفحة 57 من الكتاب: “فالمناطق اللبنانية تتشكّل من اصطفافات اجتماعيَّة ودينيَّة وسياسيَّة […] يتحوّل تدريس مادة التاريخ في هذا المجتمع إلى أداة للإعداد التاريخي […]. يدخل التلميذ إلى الصف مشكّل تاريخيًا، يستمدّ دعائم ذاكرته التاريخيَّة المجتزأة من عائلته الصغيرة، المحاطة بالعائلة الأكبر المؤدلجة دينيًا أو عقائديًا”.

أنا أتوافق مع الدكتورة حسن على ما كتبته. فالتلميذ في مجتمعنا المركّب لا يعتمد فقط على الكتاب المدرسي وعلى استاذه ليكوّن معرفته التاريخيَّة. إنَّه يتعلّم التاريخ أيضًا من أهله، ومن محيطه، ومن عظة الأحد أو خطبة الجمعة، من محطة الإذاعة التي يستمع إليها ومن البرامج التلفزيونيَّة والمسرحيات التي يشاهد، ومن المجلات التي يقرأ ومن النوادي التي ينتسب إليها إلخ. يضاف إلى ذلك أنه يعتبر أنَّ ما يتعلمّه في المدرسة، يهدف أساسًا إلى تأمين النجاح في الامتحان ليس إلا.

هذا بالنسبة إلى التلميذ، فماذا عن المعلّم؟

ورد في الصفحة 14 من المقدّمة العامّة أنَّ أبرز التحديات التي يواجهها تعليم التاريخ “يتمثّل بواقع أن معظم أساتذة التاريخ في لبنان ملتزمون دينيًا أو سياسيًا أو حزبيًا، وعليه فإنَّ وجهة نظر كلّ منهم إنّما تختلف إلى المواضيع بحسب تموضعه الديني والحزبي والسياسي”. ورد في الصفحة 13 أنَّ “الأستاذ لن يقوم بتعليم أي موضوع تاريخي إن لم يكن هو مقتنعًا به”. 

قال جان جوريس (Jaurès) وهو رجل سياسي فرنسي وفيلسوف ومؤرّخ واستاذ جامعي: “On n’enseigne pas ce que l’on sait, on enseigne ce que l’on est”، أي لا نعلّم ما نعرفه بل ما نكونه. 

هل عملية تأهيل أساتذة التاريخ الوارد ذكرها في أكثر من مكان في هذا الكتاب، تكفي لدفعهم إلى التخلي عن قناعاتهم وإلى “التحرّر من أي انتماء حزبي أو فئوي أو ديني أو مناطقي أو إثني أو ثقافي؟”. أنا شخصيًا أشك في ذلك إلا في ما خصّ عددًا منهم استطاع أن يتحرّر من الكوابيس كافّة، وفي مقدمها الكابوس الديني والمذهبي.

النقطة الثانية

الذي سأتطرق إليه هو موضوع المنهج والإيديولوجيا والنواة ولبنان الملجأ.

أنا أوافق على ما ورد على لسان الدكتورة مهى شعيب أنه “لا يمكن الفصل بين المنهج والأيديولوجيا”. تذكر الدكتورة شعيب عدة أنواع من الأيديولوجيات ص 23. أنا أظنّ أن النوعين المتقدّمين في لبنان هما الأيديولوجيا الدينيَّة والأيديولوجيا القوميَّة.

أما الانتقادات التي وجّهت إلى الأيديولوجيا التي كانت تشكّل مرجعيَّة التاريخ المدرسي والتي ركّزت على الإمارة وعلى المتصرفيَّة وعلى الجبل الملجأ، فهذه الانتقادات، على ما أرى، بحاجة إلى تلطيف وربّما إلى إعادة نظر.

إنَّ الذين ألفوا كتبًا مدرسيَّة لتاريخ لبنان بعد 1920، كان هاجسهم تثبيت الكيان المهدّد. لذا ركّزوا على ما كان صلبًا ومتماسكًا من جغرافيَّة هذا الكيان، أي الإمارة والمتصرفيَّة. أمَّا سكّان الأطراف، فوقعوا في حيرة بعد زوال الدولة العثمانيَّة واضطربت خياراتهم. كان هدف المدافعين عن لبنان الكبير حمل هؤلاء السكان على القبول بالكيان الجديد، لذا حاولوا أنْ يظهروا أنَّ للبنان، بحدود 1920، ركائز جغرافيَّة وتاريخيَّة متينة. ثمّ إنَّ الذين ألفوا الكتب المدرسيَّة وجدوا، بغزارة المصادر المتعلقة بتاريخ الجبل، وبندرة تلك المتعلّقة بتاريخ الأطراف. كان هذا من الأسباب التي جعلت كتاباتهم تعطي الأرجحية لدور الجبل النواة على دور بقية المناطق. يُضاف إلى ذلك أنَّ أبناء تلك المناطق لم يساهموا البتّة في انتاج تاريخ مشترك للبنان. نذكر أيضًا أنَّ الجبل شكّل في عهد الإمارة مركز الثقل في المنطقة. يؤكد الكولونيل شرشل في كتابه عن الدروز والموارنة الذي صدر في لندن في العام 1862، أنَّ جبل لبنان يعتبر نقطة ارتكاز تدور حولها الأقليّات التي تشكل الجبال المجاورة، في شماله وجنوبه، كالنصيرية والأكراد والمتاولة (ص. 23 – 25). إن عددًا من كُتّاب الحوليَّات ومن الرحَّالة كبوركهارد (Burckhurt) الذي كتب في العام 1822 وفولنيه (Volney) الذي كتب في العام 1787 ذكروا أنَّ الجبل اللبناني تحوّل في عهد الإمارة، إلى ملجأ الأقليات، سيّما المسيحية والدرزية منها. كانت النتيجة أن ازداد عدد سكانه بشكل مطّرد إذ بلغ في العام 1840، بحسب دراسة دومينيك شوفالييه (Chevalier) 1\7 من سكان الولايات السورية كافة، على الرغم من أن مساحة الجيل لم تكن تتعدى 1\50 من مجمل مساحة تلك الولايات (Chevalier p. 51 – 52). سنعطي بعض الأمثلة عن هذا اللجوء:

في سنة 1742، لجأ من كيليكية إلى جبل لبنان جماعة من الأرمن الكاثوليك مع بطريركهم أبراهام أردزيفيان (Ardzivian) الذي أقام كرسيه في بزمار في قلب كسروان. وفي سنة 1785، غادر حلب بطريرك السريان الكاثوليك ميشال جروي، مع جماعة من أتباعه، وأقام كرسيه في دير الشرفة في كسروان أيضًا. وفي سنة 1811 تعرّض دروز الجبل الأعلى، الكائن بين حلب وأنطاكية، إلى الاضطهاد من قبل والي حلب، استغاثوا بالأمير بشير الثاني. أرسل الأمير وفدًا من الجبل مزودًا برسائل إلى المسؤولين الأتراك يطلب منهم أن يسهّلوا عملية انتقال دروز الجبل الأعلى إلى جبل لبنان. هكذا انتقلت أربعمائة عائلة درزيَّة من منطقة حلب إلى الجبل في عهد الإمارة وفي عهد المتصرفيَّة، أفرادًا وجماعات، انصهروا كليًا في مجتمعه ولم يحدث أي تمييز بينهم وبين السكان السابقين.

أدرج الدكتور عبد المسيح في الصفحة 41 من الكتاب بعض الانتقادات التي وجهها الدكتور حسان سركيس،وهو أستاذ في علم الآثار، للأيديولوجيا الرسميَّة السابقة التي فرضت نفسها في تأليف كتاب التاريخ المدرسي ويضيف: “الأهم في كل ذلك عدم إقرار [الدكتور سركيس] البتة بشعار “لبنان الملجأ” وما يطرحه من أسئلة، على سبيل المثال، هو أمر ينفرد به لبنان وحده، وإذا كان هذا الأمر مشتركًا، لماذا استطاعت دول أخرى استيعاب اللاجئين وصهرهم في بوتقة المواطنية، في حين أنَّ أبناء لبنان لم يتمكنوا من بناء وطن”.

هناك لبس في هذه الأفكار يجب التوقف عنده. أولًا: يتكلّم المؤرخون والرحالة عن جبل لبنان الملجأ، ويتكلم الدكتور سركيس عن لبنان الملجأ، وهما أمران مختلفان. إنَّ الجبل كما رأينا استوعب اللاجئين وصهرهم في مجتمعه كما فعلت دول عديدة أخرى مع اللاجئين إليها. فلا غبار إذًا على تصرّفه في هذا الصدد. أما إذا كان الدكتور سركيس يقصد لبنان الكبير، فلبنان هذا هو أيضًأ ملجأ. عرف منذ ولادته في العام 1920 ثلاث موجات من اللجوء الجماعي إضافة إلى اللجوء الفردي. تشكّلت الموجة الأولى من الأرمن الذين اضطروا إلى مغادرة كيليكية في العامية 1921 و1922، بعد أن انسحب منها الفرنسيون وأعادوها إلى تركيا الكمالية. الموجة الثانية هي اللجوء الفلسطيني في العام 1948، والثالثة هي اللجوء السوري الحالي. تمّ استيعاب الأرمن في لبنان وصهرهم في بوتقة المواطنية على أكمل وجه. إن مؤتمر لوزان أقر! الحق لسكان السلطنة العثمانية السابقين ومنهم الأرمن، بأن يقيموا في أية دولة يختارونها من بين الدول التي انبثقت من تقسيم تلك السلطنة، وبأن يحصلوا على جنسيتها، وذلك من دون أي عائق، وإن لبنان هو من تلك الدول. أما الفلسطينيون، فإنهم متمسّكون بحقّ العودة، والسوريّون فنزوحهم مؤقّت. إنَّ الجبل اللبناني اعتبر إذًا ملجأ ولبنان الكبير يُعتبر ملجأ، ولم يجد أيّ منهما صعوبة في استيعاب اللاجئين. وحتى لو لم يكونا ينفردان بهذا الأمر، فهذا لا يبرّر إصرار البعض على عدم الإقرار لهما بهذا الشعار أي بكونهما ملجأ. 

قلنا أنَّ أهداف الإيديولوجيا التي نحن في صددها تتلخّص بتثبيت الكيان وبحمل سكّان المناطق المتردّدة على القبول به. يضاف إلى ذلك الحصول على اعتراف العالم العربي بحدود هذا الكيان وباستقلاله. يبدو أن هذه الأهداف قد تحققت الآن. إن الخلاف الذي لا يزال قائمًا يدور حول القراءة التاريخية للماضي، أي لمراحل ما قبل 1920. كتب الدكتور سركيس “إن تاريخ لبنان ليس إلا تواريخ المناطق والجماعات التي يتكوّن منها، وإنه ليس تاريخًا واحدًا موحّدًا (عبد المسيح ص 42). لا أحد من المعنيين بالموضوع يدّعي عكس ذلك. علينا فقط أن نجمع هذه التواريخ وأن نستخرج منها قواسم مشتركة. إننا نقرّ جميعًا أن المناطق التي ضمّت إلى المتصرفية لتكوّن معها لبنان الكبير، لم تعط حقّها في الكتب المدرسية السابقة لأسباب عديدة ذكرنا بعضها. إن كل المهتمين بالشأن التاريخي يعملون معًا على تصويب الأمور. وهذا ما حاولنا فعله في إعداد منهج 2010، لا سيّما بعد أن توفّرت الوثائق والمراجع العلمية عن تاريخ المناطق المذكورة.

هذه الإيضاحات لا تجعلنا ننفي وجود نواة صلبة تشكّل حولها لبنان، قوامها الإمارة والمتصرفية لعبت الأسرتان المعنية والشهابية على مستوى المنطقة دورًا يفوق حجم الجبل الجغرافي. يضاف إلى ذلك أن الجبل في العهد العثماني كان يحكمه أمير من أبنائه يتمتع بشيء من الاستقلالية، في حين كانت المناطق المجاورة تخضع مباشرة للولاء العثمانيين. أما المتصرفية، فحازت على ضمانة دولية وكان لها مجلس منتخب، ولوا وجودها لما ولدت دولة لبنان الكبير. إن الوفود إلى مؤتمر الصلح تألفت من أبنائها الذين ناضلوا من أجل توسيع الحدود وإنشاء كيان مستقل عن أية كيانات أخرى قد تنشأ في المنطقة، معتبرين أن خصوصيتهم معترف بها دوليًا وأنهم بلغوا درجة من التطور الثقافي والتنظيم السياسي والتكامل الاجتماعي بين الطوائف والمساواة بين الأديان والمذاهب لم يبلغها سكان الداخل السوري، لذلك آثروا البقاء مستقلين عنهم.

النقطة الأخيرة التي سأتطرق إليها تتعلّق بطبيعة الصراع في لبنان

إن الصراع في لبنان، بحسب رأينا، ليس صراعًا بين المركز والأطراف. إن محاولة إبرازه بهذه الصورة تشكّل انحرافًا عن الحقيقة. الصراع في لبنان، منذ العام 1920 هو بين قوتين، إحداهما جاذبة، متمسّكة بالكيان وبالجغرافيا التي أعطيت له منذ نشأته، والثانية طاردة، تدفع بهذا الكيان نحو الخارج، نحو الدول المجاورة، قوامها إمَّا أحزاب قومية عقائدية عابرة للحدود، وإمَّا أيديولوجيات دينيَّة أهدافها تتخطّى القوميَّات والحدود الجغرافيَّة معًا. 

إنَّ القوى المنضوية إلى كلّ من هاتين الجبهتين ليست ثابتة وليست محصورة بمنطقة جغرافية معيّنة. نجد داخل القوة الجاذبة قسمًا من سكان الأطراف، وداخل القوّة الطاردة قسمًا من سكان المركز. تأرجح لبنان الكبير منذ ولادته، بين هاتين القوتين في عملية مدّ وجزر. في عشرينيات القرن الماضي، كان الصراع بين الفيصليين والوحدويين السوريين من جهة، والمتمسكين بدولة لبنان الكبير من جهة ثانية. هدأ الصراع في ثلاثينيات القرن الماضي، وأدى إلى ميثاق 1943. ثم برز من جديد مع الموجة الناصرية، وسكن في عهد الرئيس فؤاد شهاب. إلى أن استفاق في العام 1969 في حلّة جديدة مع الفلسطينيين، ما أشعل الحرب في العام 1975. نعيش اليوم مرحلة جديدة من هذا الصراع بسبب التجاوزات الناتجة عن ظهور أيديولوجيا دينيَّة طموحة في الأوساط الشيعيَّة تهدّد التوازن الداخلي الهشّ الذي فرضه اتفاق الطائف. أدى ذلك إلى ظهور أيديولوجيا دينيَّة أخرى عند بقية الطوائف وإلى تغيير الاصطفافات داخل القوتين المتواجهتين، أي الجاذبة والطاردة. لا تزال النتائج المستقبليَّة لكل هذه التحولات غامضة.

اسمحوا لي قبل أن اختم بالعودة السريعة إلى موضوع المنهج لما له من أهمية. إني التقي مع الدكتور عبد المسيح الذي يقترح العمل “على صناعة منهج يكون مرنًا في شكله ومضمونه بحيث يحقق القفزات الإبستمولوجية والطرائقية المرتجاة، من ناحية، ويحافظ على التماسك المؤسساتي والمعرفي والتربوي من ناحية ثانية” (ص 21). وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أبعد المنهج عن تأثير السياسيين وتركت عملية انتاجه للمؤرخين واستند في إعداده وتطبيقه إلى المرجعيات التاريخيَّة العلميَّة.

تتوافق الدكتورة مهى شعيب مع الدكتور عبد المسيح على اعتبار منهج 2010 الذي شاركتُ في إعداده، كما أوضحت سابقًا، تطورًا مهمًا، إن من الناحية المعرفية أو من الناحية الطرائقية، وعلى أنه يشكّل أفضل الممكن في الوقت الحاضر.

أختم بتكرار الشكر والتهاني للهيئة اللبنانيَّة للتاريخ متمنيًا لها التلألؤ الدائم والنجاح في كل ما تقوم به، كما أهنّئ أصحاب المقالات التي يتضمنها الكتاب، وأشكر الجمهور على إصغائه.